كيف تستطيع نظرية الساندويتش المساهمة في إصلاح التعليم في السعودية

نكاد لا نجد دولة في هذا العصر لا تولي ملف التعليم اهتمامًا كبيرًا، لكن هذا الملف متشعب ومعقد لدرجة أنه لا يمكن التخطيط لأي مبادرات تعليمية إصلاحية دون العودة إلى السؤال الأزلي: من أين نبدأ في حل المشكلة؟

 

من خلال خبرتنا وعملنا في شركة إمكان واطلاعنا على العديد من المشاريع، وجدنا أن الطريقة الأمثل لإحداث أثر حقيقي أثناء أي عملية إصلاحية هي البدء باختيار عدد محدود من المراحل والمبادرات، وهذا يقتضي وضع قائمة أولويات حتى يتم التعامل مع الثغرات والإشكاليات بمنهجية في ضوء محدودية الموارد، خاصةً الموارد المالية. وبالتالي عدم وجود أولويات واضحة سيؤدي بالضرورة إلى تشتيت الجهود، والموارد، والوقوع في فخ التنفيذ العشوائي.

 

لذلك عندما نتطرق إلى ملف إصلاح التعليم نرى أنه من الأفضل أن يتم التركيز على المرحلتين الدراسيتين ذات الدور المحوري والذي من شأنه أن يشكل فارقًا جذريًا في المنظومة التعليمية ككل، بل والمنظومة الاقتصادية والاجتماعية أيضًا. هاتان المرحلتان هما:

  • التعليم العالي، ويشمل ذلك التعليم الأكاديمي بالإضافة إلى التدريب التقني والمهني.
  • التعليم المبكر أو ما يعرف بمرحلة رياض الأطفال.

 

لماذا هاتان المرحلتان تحديدًا؟  تخيل معنا أيها القارئ قطعة ساندويتش، هناك حشوة في المنتصف، وهناك قطعتين من الخبز مهمتهما أن يحفظا هذه الحشوة، ويجعلا الساندويتش متماسكًا، من دون هاتين القطعتين المهمتين أو إحداهما، ستنفرط الحشوة ولن يصبح الساندويتش ساندويتشًا، بل كتلة مبعثرة من الحشوة، لا تعرف كيف ستتناولها!

 

مرحلتي التعليم العالي والمبكر يشبهان قطعتي خبز الساندويتش في الدور المهم اللذان يلعبانه في الحفاظ على وجود منظومة تعليمية ذات جودة عالية، قادرة على تخريج أجيال تتمتع بخيارات حياتية ومهنية أفضل، وذلك لأن الاستثمار في هاتين المرحلتين له مردود أكبر من الاستثمار في مراحل التعليم العام، كما أن كلاً منهما يشكل عتبة أولية تترتب عليها تبعات كثيرة. فرياض الأطفال هو العتبة الأولى في مرحلة التعليم الممنهج والمعرفة الحياتية التي قد يحصل عليها الفرد. أما التعليم العالي فهو العتبة الأولى التي تهيئ الفرد لسوق العمل بشكل مباشر.

 

رسم توضيحي لنظرية الساندويتش في إصلاح التعليم

 

سنوضح في هذه التدوينة لماذا الاستثمار في مرحلتي التعليم العالي والمبكر تحديدًا خلال الست سنوات القادمة سيساهم في تحقيق أهداف رؤية ٢٠٣٠ الخاصة بالتعليم.

 

التعليم العالي على رأس قائمة الأولويات (قطعة الخبز الأولى)

لا يخفى على القارئ أن هذه المرحلة مهمة في تشكيل المستقبل المهني لأي فرد، فإذا حصل الطالب الجامعي على المهارات والمعارف التي يمكن توظيفها لتطوير المنظومة الاقتصادية والمعرفية في البلد سيسهل عليه ذلك إيجاد فرص عمل تضمن له دخل مادي جيد وحياة كريمة. بشكل عام عادة ما يجني الحاصلين على تعليم عالي ضعف ما يجنيه نظرائهم ممن لم يلتحقوا بالجامعات، كما أن فرصة الحصول على وظيفة أكبر بنسبة ١٠٪ عند الحاصلين على تعليم عالي[1].

 

في معظم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وعلى مدى الخمسة عشر سنوات الماضية، شوهد ارتفاع ملحوظ وثابت في معدل التوظيف عند الملتحقين بالجامعات بنسبة أكبر من ارتفاع معدل التوظيف عند الأشخاص الذين لم يحصلوا على تعليم عالي[2]، وبذلك يكون الحصول على تعليم عالي أحد العوامل التي تعود بمردود نافع على الفرد، نظرًا لأن تجربة الجامعة والمعهد المهني من شأنها أن تؤهل الفرد لاحتياجات سوق العمل وتكسبه مستوى أعلى من المهارات والمعارف مقارنة بتلك التي يحصل عليها طالب الثانوية.

 

وقد أظهرت نتائج إحدى الدراسات التي نُفذت في بعض الدول الأوروبية أن أقل من ٥٪ من الطلاب غير الحاصلين على تعليم عالي استطاعوا تحقيق درجات مرتفعة في اختبار مسح مهارات الكبار (Survey of Adult Skills) بينما حقق ١٠٪ من الطلاب الحاصلين على تعليم عالي درجات مرتفعة في الاختبار ذاته[3].

 

في السياق المحلي السعودي تحديدًا، هناك عدة عوامل تجعل من التركيز على التعليم العالي أمر مُلح في الوقت الراهن. نسبة السعوديين الحاصلين على تعليم عالي (من عمر ٢٥ إلى ٣٤ سنة) هي أقل بكثير من نسبة متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (السعودية ٢٦٪، متوسط دول المنظمة ٤٤.٥٪)[4]، وحتى مع الارتفاع المشهود في نسبة الحصول على تعليم عالي خلال السنوات الماضية لم يؤدي ذلك إلى ارتفاع في نسبة التوظيف على عكس ما حدث في معظم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية[5]، فنسبة العطالة بين السعوديين تتجاوز الـ ١٢٪[6]، وقد تكون أحد الأسباب لذلك هو أن جودة التعليم العالي لا تقل أهمية عن توافره، فما جدوى وجود الجامعات والمعاهد التقنية والمهنية إن لم تستطع تأهيل الشباب بالمهارات والمعارف التي يحتاجها المجتمع واقتصاد البلد؟

 

عندما نتحدث عن الإصلاحات في التعليم العالي فهي لا تقتصر على تطوير مباني ومناهج الجامعات والمعاهد التقنية والمهنية فقط، بل تشمل تشريع سياسات التعلم المرن والتعلم مدى الحياة، بالإضافة إلى دمج وتعزيز برامج المؤهلات الصغيرة (Nano Degrees)، والتعلم الإلكتروني، والتدريب على رأس العمل، وغيرها من المبادرات والتشريعات التي تؤهل الشباب ليس لسوق العمل فقط، بل للحياة ككل، تركيز الجهود في هذا النطاق المحدد سيحقق أثرًا ملموسًا في تطوير التعليم بشكل سريع.

 

ولكن لماذا نحتاج أيضًا أن نستثمر الأموال والجهود في تقديم تعليم لطفل لم يتجاوز حتى الأربع سنوات! (قطعة الخبز الثانية)   

إن كنت تنظر إلى الاستثمار على أنه مشروع يؤتي أكله على المدى القصير، فلن يبدو لك ضخ الأموال والموارد لتطوير التعليم المبكر مجديًا، خصوصًا أن طفل الأربع سنوات لن يلتحق بأي وظيفة الأسبوع القادم أو يؤسس شركة تدف عجلة الاقتصاد بعد أسبوعين من الآن! لكن هذه هي فكرة الاستثمار ابتداءً، لن نرى العوائد إلا على المدى البعيد. وبناءً على العديد من الدراسات التي أجراها الاقتصاديون تبين أن الاستثمار في مرحلة رياض الأطفال تحديدًا له عوائد أكبر من الاستثمار في المراحل الدراسية الأخرى، فكما جاء في تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية[7] كل دولار يصرف على تطوير التعليم والرعاية في مرحلة الطفولة المبكرة له مردود أكبر مقارنة بالدولار الذي يصرف على تطوير التعليم في المراحل المتقدمة، بل إن دراسات بروفيسور الاقتصاد جيمس هيكمان أظهرت أن الاستثمار في برنامج تعليم ورعاية للأطفال ذا جودة عالية قادر على تحصيل عوائد بنسبة ١٣٪[8].

 

وجدت الدراسات أن التعليم المبكر الذي يحصل عليه الطفل ما بين (٣ و٥ سنوات) يؤثر على أدائه في مراحل دراسية متقدمة. فقد أظهرت نتائج اختبارات بيسا (PISA) والذي يمتحن قدرات القراءة عند الطلاب في عمر الخامسة عشر، أن الطلاب الذين التحقوا بمرحلة رياض الأطفال لمدة سنة أو أكثر كان أداؤهم أعلى بثلاثين نقطة مقارنة بالطلاب الذين لم يحصلوا على تعليم مبكر. كما أن الفريق الأول أظهر مستوى مهارات حسابية ومعرفة عامة أفضل من الفريق الثاني[9].

 

الأثر لا يقتصر على الأداء المدرسي فقط بل يمتد إلى إمكانية الحصول على جودة حياة أفضل بشكل عام. ففي دراسة روضة بيري الشهيرة، تتبع الباحثون (١٢٣) طفل أمريكي (من عمر ٣ إلى ٤ سنوات) من عائلات ذات أصول أفريقية ودخل مادي منخفض، جزء من هؤلاء الطلاب التحقوا برياض الأطفال، والجزء الآخر لم تتسنى له تلك الفرصة، وعند المقارنة بين المجموعتين على مدى عدة سنوات، جاءت النتائج على النحو الموضح في الرسم البياني أدناه[10].

رسم بياني يوضح نتائج دراسة روضة بيري - التعليم المبكر

 

وقد يتساءل القارئ هنا: ما السر وراء هذه المرحلة العمرية بالذات؟ وما الذي يجعل لها كل هذا الأثر الكبير على حياة الفرد والمجتمع المستقبلية؟

أظهرت دراسات الدماغ والأعصاب أن دماغ الإنسان يتطور بسرعة هائلة في السنوات الأولى في حياته بحيث تكون قدرته على الاستيعاب عالية، لكن مع التقدم في السن تبدأ هذه القدرة في الإبطاء، كما يوضح الرسم البياني أدناه[11].

حساسية دماغ الطفل أثناء مرحلة التعليم والمبكر وبعدها

أما بالنسبة للعوائد الاجتماعية من الاستثمار في تطوير التعليم المبكر، فتشمل إيجاد بيئة اجتماعية أكثر أمانًا، وترابطاً اجتماعيًا أفضل، وارتفاعًا في نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة، وهي أحد أهم المبادرات الحالية للمملكة، حيث خصص صندوق تنمية الموارد البشرية ميزانية لتغطية جزء من رسوم الحضانة والتعليم المبكر بهدف تمكين المرأة من الالتحاق بسوق العمل. لكن الطاقة الاستيعابية في المدارس الحكومية والأهلية غير قادرة على تلبية الاحتياج، فحوالي ١٠٪ (٢ مليون) من إجمالي تعداد السكان[12] هم أطفال تتراوح أعمارهم من حديثي الولادة إلى أربع سنوات. أضف إلى ذلك أن نسبة التحاقهم بالتعليم المبكر هي ٢٠٪ فقط وهي نسبة منخفضة جدًا بالنسبة لمعدل المتوسط العالمي وهو ما يقارب الـ٩٠٪[13].

 

ماذا عن التعليم العام (حشوة الساندويتش)

بخلاف مرحلتي التعليم العالي والمبكر، فرصة الحصول على تعليم عام مضمونة لجميع المواطنين إذا كنا نتحدث عن دولة كالسعودية، فمن ناحية هو إلزامي، ومن ناحية أخرى المدارس الحكومية منتشرة في جميع أرجاء المملكة.

بلا شك هناك الكثير من الإشكاليات التي يعاني منها التعليم العام، لكن علاجها ممكن من خلال إرساء خمس سياسات أساسية ريثما نعمل بتركيز على المرحلتين المهمتين في الـست سنوات القادمة:

  1. تفعيل الخصخصة، وتشمل القسائم التعليمية لتمكين أولياء الأمور من ضم أبنائهم إلى المدارس الأهلية المميزة.
  2. تجويد التعليم من خلال قياس الأثر، وذلك يتم عن طريقين:
    أولاً: تقييم المدارس لقياس أدائها في ظل تشريعات وأنظمة التعليم.ثانيًا: بدء الاختبارات الوطنية لقياس مخرجات التعليم في المراحل المختلفة.
  3. دعم الاستثمار الأجنبي لبناء قدرات الكوادر المحلية وزيادة خيارات المدارس العالمية .
  4. إيجاد منظومة للارتقاء بالمعلمين والقيادات التعليمية، مثل تعميم رخص المعلمين والمعايير المهنية.
  5. تحقيق اللامركزية عن طريق تمكين المناطق والإدارات التعليمية، مع التقييم المستمر لأدائهم لقياس الأثر.

في النهاية، نشعر بالتفاؤل لما توليه مبادرات التحول الوطني الحالية من اهتمام بالتعليم العالي والمبكر، ونتمنى أن تحظى هاتين المرحلتين بالنصيب الأكبر من التركيز والاستثمار لا بهدف التوسع فقط بل لرفع مستوى الجودة أيضًا.

 

المصادر:

[1] [2] [3] Education at a Glance 2014 OECD indicators

[4] OECD Data; Population with Tertiary Education

[5] Education at a Glance 2017; Country Note: Saudi Arabia

[6] General Authority for Statistics KSA, 2019

[7] Investing in high-quality early childhood education and care (ECEC); OECD Report

[8] Heckman Equation; 13 ROI Toolbox

[9] Investing in high-quality early childhood education and care (ECEC); OECD Report

[10] The High/Scope Perry Preschool Study Through Age 40, 2005

[11] The Science of Early Child Development 2010

[12] General Authority for Statistics KSA, 2017

[13] UNISCO Institute of Statistics; Saudi Arabia 2017; OECD – Social Policy Division – Enrollment in Childcare and Preschool 2018OECD.Stat – Enrollment Rates in Pre-primary Education


 

ساعدت إمكان التعليمية أكثر من 60 مؤسسة تعليمية محلية ودولية من تحقيق التغيير المطلوب. فهل أنت مستعد للانضمام لقائمة عملائنا وتحقيق التحول المنشود لمؤسستك؟